تعتبر إشكالية الفلسفة مفتاح جميع الإشكاليات الفلسفية.فكيف ما كان نوع الإشكال، ونوع الموضوع التي تبحث فيه،يظل السؤال الأساسي هو:هل باستطاعتنا الحصول على معرفة حقيقية؟و حتى إذا ما أمكن ذلك، فما عساها أن تكون طبيعة هذه المعرفة:هل ترقى لأن تكون معرفة كاملة ومطلقة،أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد معرفة ناقصة ونسبية؟وفي سائر الأحوال كيف يتأتى الوصول إلى هذه المعرفة؟وماهي أفضل السبل المؤدية إليها:هل هي العقل وحده معتمدا على مبادئه وأفكاره القبلية،يستنبط منها،ويتقدم من المعلوم إلى المجهول،أم الحس وما يقوم عليه من معطيات وتجارب،أم الحدس وما يفرضه من تعاطف وذوق ومشاركة وجدانية؟
المحور الأول:الحقيقة و الرأي.
نتساءل في هذا المحور عن ماهية الحقيقة.هل هي معطى جاهز لا يحتاج إلى تحقيق أو تنقيب ، أم أنها بناء يتأسس على الانفتاح على استكشاف الواقع دون ما حاجة إلى أفكار قبلية جاهزة؟
في هذا الصدد نجد ديكارت يرفض تأسيس الحقيقة على الحواس لأن الحواس في نظره تخدعنا و تقدم لنا حقائق ظنية ينبغي تلافيها رغم أنه لا ينكر وجود العالم الحسي إلا أنه لا يعتبره منطلقا مضمونا لاكتشاف الحقيقة ، لأنها في نظره من شأن العقل وحده وهو ما يقبله العقل تلقائيا دونما حاجة إلى برهان فالحقيقة في الأصل ليست واقعا بل أفكارا في العقل ولما كانت الحدود بين الصادق والكاذب من الأفكار ليست بينة منذ البداية فإن الطريق إلى الحقيقة في نظر ديكارت هو الشك المنهجي ، والشك لا يتطلب خروج العقل من ذاته إلى العالم الخارجي بل يشترط فقط العودة إلى الذات لإعادة النظر -مسح الطاولة- في كل ما لديه من أفكار بواسطة الشك المنهجي .و عملية الشك تنتهي إلى أفكار لا تقبل الشك ألا وهي الأفكار البسيطة الفطرية في العقل ( البديهيات : الهوية عدم التناقض الثالث المرفوع ..) وهي أساس اليقين فليس تمة حقيقة إلا إذا قامت على هذه المبادئ والتي تدرك بواسطة الحدس العقلي ، وانطلاقا منها يستنبط العقل بواسطة الاستدلال كل الحقائق المركبة والممكنة يظهر أن العقل هو مبدأ ومنتهى الحقيقة . لكن ما علاقة الحقائق المدركة بالعقل بالواقع الموضوعي ؟ أمام معقولية الحقيقة (الخاصية الفكرية و المتمثلة في البداهة و الوضوح العقليين ) فإن مطابقتها للواقع يدفع إلى طرح السؤال أي واقع تكون الحقيقة مطابقة له ؟ أهو المشكوك فيه (المادي) أم الخفي و كيف يطابق الفكر واقعا خفيا ؟ وكيف يمكن التحقق من هذه المطابقة ؟ يرى ديكارت انطلاقا من فكرة الضمان الإلهي أنها علاقة تطابق فما دام العقل بفطريته والواقع بخصائصه وقوانينه الموضوعية يصدران معا عن أصل واحد (هو الله ) فإن وحدة مصدرهما هي ضامن تطابقهما وبذلك اعتقد ديكارت أنه قد حصن الحقيقة داخل قلعة اليقين التام (العقل) و لم يعد هناك مجال للشك ما دام قد قطع الطريق نهائيا عن الحواس.و لكن هل تكون الحقيقة عقلية بحتة و كيف يمكن للعقل أن يدرك حقيقة الواقع دون الاتصال به مباشرة ، إنه جانب غير معقول في عقلانية ديكارت سيحاول كانط معالجته
لكن كانط سيعتبر أن الحقيقة ليست لا ذاتية ولا موضوعية وليست معطاة أو جاهزة خارج الفكر والواقع ولا داخله بل إنها منتوج (بناء) إنها حاصل تفاعل الفكر والواقع , يبنيهما العقل انطلاقا من معطيات التجربة الحسية مادة المعرفة التي يضفي عليها الفهم الصور والأشكال .فالحقيقة تستلزم الـــمادة والصورة ، الواقع والفكر معا . وعلى هذا المضي أضحت الحقيقة متعددة ونسبية وغير معطاة بل لم تعد مطابقة الفكر للواقع بل انتظام معطيات الواقع في أطر أو مقولات العقل .
أما هايدجر فيذهب إلى أن الحقيقة تتخذ طعما آخر ومفهوما جديدا إنها في نظره توجد في الوجود ما دام هذا الوجود لا يتمكن من التعبير عن ذاته و الكشف عن حقيقته فإنه يحتاج إلى من يقوم بذلك والإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتجلى فيه حقيقة الوجود ، لا لأنه يفكر وإنما لأنه ينطق و يتكلم ويعبر . فالإنسان في نظره نور الحقيقة في ظلمات الكينونة ، فالحقيقة ليست فكرا ينضاف إلى الوجود من الخارج كما ادعى ديكارت و كانط، و إنما هي توجد في صميم الوجود نفسه و ليس الإنسان سوى لسان حال الوجود أو كلمة الوجود المنطوقة ، الأمر الذي يدل على أن الحقيقة هي فكر يطابق لغة معينة تعبر عن وجود معين أي كشف للكائن وحريته، أي استعداد الفكر للانفتاح على الكائن المنكشف له ، و استقباله إذا ما تحقق التوافق و الانسجام.
المحور الثاني:معايير الحقيقة.
إذا كان هدف الحقيقة هو معانقة اليقين في إنتاجها لمختلف أصناف المعارف وفي مختلف الوسائل للإقناع وبسط سلطاتها المعرفية، فإننا نكون أمام تعدد معايير الحقيقة.فما هو معيار الحقيقة؟هل هو معيار منطقي أم مادي؟
يرى ديكارت أننا لا نخطئ إلا حينما نحكم على شيء لا تتوفر لدينا معرفة دقيقة عنه ويعتبر أن الحقيقة بسيطة ومتجانسة خالصة وبالتالي متميزة وواضحة بذاتها . فالحقيقي بديهي بالنسبة للعقل ولا يحتاج إلى دليل ومتميز عما ليس حقيقيا ، إنه قائم بذاته كالنور يعرف بذاته دونما حاجة إلى سند كما قال اسبينوزا ، واللا حقيقي كالظلام يوجد خارج النور .فالفكرة الصحيحة (الكل أكبر من الجزء) صادقة دوما ونقيضها خاطئ دوما .
في حين نجد هيجل الذي بين عن طريق التحليل الجدلي أن كل شيء يحمل في جوفه ضده ويوجد بفضله و ينعدم بانعدامه ، ومن هذا المنظور الجدلي فالخطأ هو الضد الجدلي للحقيقة أي أساسها و مكونها.
أما باشلار فيعتبر أن الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه وأن كل معرفة علمية تحمل في ذاتها عوائق ابستمولوجية تؤدي إلى الخطأ وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي وهذا يعني أن الحقيقة لا تولد دفعة واحدة فكل الاجتهادات الإنسانية الأولى عبارة عن خطأ واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقيقة.
هكذا لم يعد ممكنا في المنظور المعاصر تصور الخطاب العلمي حاملا لحقائق صافية مطلقة يقول إدجار موران الذي يثبت أن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ. والخطأ الأساسي يقوم في التملك الوحيد لجانب الحقيقة. إن النظريات العلمية مثلها مثل جبل الجليد فيها جزء ضخم منغمر ليس علميا و لكنه ضروري للتطور العلمي.
وعلى النقيض من كل الأطاريح السابقة فان نيتشه يرى أن الحقائق مجرد أوهام نسينا أنها أوهام وذلك بسبب نسيان منشأ اللغة وعملها لأن اللغة ما هي إلا استعارات وتشبيهات زينت بالصورة الشعرية والبلاغية مما يجعل من الصعب التوصل إلى الحقائق بواسطة الكلمات أو إلى تعبير مطابق للواقع و للكيانات الأصلية للأشياء بالإضافة إلى نسيان الرغبات والأهواء والغرائز التي تحول دون السلوك الإنساني وتدفعه إلى الكذب والأخطاء ، بدل الكشف والإظهار وبذلك يصبح الطريق إلى الحقيقة ليس هو العقل أو اللغة بل النسيان و اللاشعور.
المحور الثالث: الحقيقة كقيمة:
إن اعتقاد الإنسان في الحقائق وسعيه المتعطش وراءها أمر ضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية والأخلاقية كما تبين في المحور السابق ولعل هذا ما يطرح مسألة الحقيقة كقيمة. فمن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ ما الذي يجعل الحقيقة مرغوبا فيها وغاية وهدفا للجهد الإنساني؟
إن كانط يربط بين الحقيقة و أبعاد عملية وسلوكية دون أن يكتفي باستثمارها المصطلحي فقط في مسار اشتغاله المعرفي ، ويحيل على السؤال الذي ينبغي أن تسترد به كل مبادرة سلوك (ماذا لو فعل الناس جميعهم هذا السلوك؟) .من هنا يظهر البعد الغائي و الوظيفي الذي يتناول منه كانط مفهوم الحقيقة ، وكذا باعتبارها ارتباطا باليومي و القانوني من أجل تحقيق السلام الدائم .
أما كيركجارد فيرى أن الحقيقة لها قيمة أخلاقية إنها فضيلة على الطريقة السقراطية قبل أن تكون مجرد معرفة ، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحياة وتعاش بالمعاناة .
الحقيقة ليست شيء ثابت إنها حوار و اختلاف وهي ذاتية لأنها لا تتكرر في كل واحد منا، إنها أخلاق وفضيلة وليست قضية معرفية وغاية مذهبية بعيدة عن شروط ووجود الإنسان .
غير أن وليام جيمس فان فلسفته كانت ثورة على المطلق والتأملي و المجرد . فقيمة الحقيقة هي قدرتها على تحقيق نتائج و تأثيرات في الواقع ، و بالنسبة لجيمس قد تكون تلك نتائج مباشرة كما هو في الواقع المادي ، وقد تكون غير مباشرة بمعنى غير فعالة بشكل مباشر كحديث وليام جيمس عن تأثير الإيمان بالله في الفرد بحيث ينحت داخله مجموعة من القيم التي باكتسابها تسود قيم من قبيل الخير و الفضيلة .
لكن نيتشه له رأي مخالف ففي تصوره ، مصدر الحقيقة هو ذلك العود الأبدي للعصر الهيليني التراجيدي ، حيث الإقبال على الحياة بآلامها و آمالها ، وحيث تسود الطقوس الديونيزوسية ملغية الوجه الأبولوني للحياة ، إنها تأسس للإنسان الأعلى ، ورغبة في التفوق و إرادة القوة ...
النظرية والتجربة
مقدمة:
يندرج مفهوما النظرية والتجربة ضمن فلسفة العلوم التي تؤسس بحق لأجرأ نظريات المعرفة العلمية والتي شكلت منذ ظهورها مطلع القرن الفارط لب الأبحاث العلمية التي ساهمت في تطوير العلوم المعاصرة والتي كانت سببا في رفاهة الانسان المعاصر.
1.المحور الأول:التجربة والتجريب.
مما لا مناص فيه، تعتبر المعرفة العلمية نموذجا للموضوعية والدقة في أبحاثها ونتائجها، لكن ما سبب قوتها ومصداقيتها؟ثم كيف تبني موضوعها:هل بالاعتماد على الوقائع الحسية أم باللجوء إلى الفكر العقلاني؟
يرى كلود برنار أن المنهج التجريبي الذي ينطلق من التجربة مرورا بالمقارنة وانتهاء بالحكم يشكل جوهر المعرفة العلمية لكونه هو المصدر الوحيد للمعرفة الإنسانية،ولاسيما في إدراك العلاقات بين الظواهر،وفي اعتماد الاستدلال التجريبي لاستنباط الأحكام والقوانين من الظواهر الطبيعية بغية التحكم فيها.
في حين دافيد هيوم لا يرى ضرورة ابتداء المعرفة بالتجربة وحدها بل عليها أن تقوم كليا على التجربة. فما يمكن ملاحظته هي الظواهر التي لايمكن تفسيرها ، إذ لا شيء يمكن معرفته قبليا دونما أي تجربة.
أما رونيه طوم فيعتقد أن الواقعة التجريبية لا يمكن أن تكون علمية إلاإذا استوفت شرطين أساسين :
قابلية إعادة صنعها في مجالات زمكانية مختلفة.
إثارتها اهتماما تطبيقيا يتمثل في الاستجابة لحاجات بشرية، واهتماما نظريا يجعل البحث يندرج ضمن إشكالية علمية محققة.
وفي هذه الحالة يكون الهدف من التجريب هو التحقق من مدى نجاعة فرضية ما .لكن من أين تأتي الفرضية ؟
لا وجود لفرضية بدون وجود شكل من أشكال "النظرية" ...ويتعلق الأمربالعلاقات السببية التي تربط السبب بالنتيجة. فيكون دور التجربة إما إثباتها وإما تكذيبها..غير أن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف أسباب ظاهرة ما . وهنا يأتي دور الخيال الذهني ليطلق العنان للإبداع الذي عجز عنه الإحساس .
المحور الثاني:العقلانية العلمية.
في الوقت الذي يشكل فيه العقل مصدرا لبناء النظرية يؤسس الواقع موضوعها لكن ما الأساس الذي تبنى عليه العقلانية العلمية ؟ هل العقل أم التجربة، أم هما معا؟
يرى ديكارت ضرورة بناء المعرفة العلمية اعتمادا على العقل وحده دونما الاستعانة بالتجارب والمعارف النابعة من الحواس لأن له جميع الخاصيات والمؤهلات التي تتيح له إنتاج الحقيقة .فالعقل يعتمد على المبادئ التي تساعده على بلوغ أهدافه ببداهة ووضوح تامتين.
لكن كانط له موقف يجمع فيه بين قدرات العقل ومعطيات التجربة،بمعنى التكامل بين المعرفة العقلية القبلية والمعرفة التجريبية البعدية.فالتجربة ليست إلا مجرد وسيلة يتم بموجبها الحكم على المبادئ العقلية القبلية لان بلوغ الأحكام الكونية رهين بالتفكير العقلي المنقح بالتجربة.
ويذهب ألبير إنشتاين إلى أن للعقل الدور الايجابي في المعرفة العلمية .فالعقل هو الذي يمنح النسق الرياضي -الذي أصبح في ظل الفيزياء المعاصرة المحدد الرئيسي - بنيته. أما التجربة فينبغي أن تتناسب مع نتائج النظرية تناسبا تاما. لأن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم و القوانين و التي تمنحنا مفتاح فهم ظواهرالطبيعة التي يرى اينشتاين أنها تتحدث لغة الأرقام.
في حين يعتبر بوانكاري أن العلاقة بين الرياضي والفيزيائي يجب أن تقوم على أساس التعاون والاستفادة المتبادلة،مادام أنهما يسعيان لتحقيق نفس الهدف.فالعلم يرى أنه تطور عندما اعتمد الفيزيائي على اللغة الرياضية من أجل صياغة قوانينه،الأمر الذي تسبب في تقليص الأهمية التي احتكرتها التجربة فأضحت عقلانية الرياضيات حاضرة بقوة في النظرية الفيزيائية.
المحور الثالث:معايير علمية النظريات العلمية.
من المصادر عنه أن المعرفة العلمية حققت نجاحا باهرا في كل مجالات اشتغالها، والفضل في ذلك يرجع إلى زخم كبير من الأسباب التي جعلتها تحظى بالدقة والموضوعية والصرامة.لكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن ما هي معايير علمية المعرفة العلمية؟وما هي مقاييس صلاحيتها ؟
يرى برتراند راسل أن المعرفة العلمية التي يحصلها الإنسان على وجهين: معرفة بالحقائق الخاصة ، ومعرفة بالحقائق العلمية.فالحقائق الخاصة هي وقائع تتضمن استنتاجات تتباين درجة صحتها وصلاحيتها ، في حين تتخذ الحقائق العلمية صورة استنتاجات يقينية .إلا أن هذه الحقائق العلمية قد تقصر على استيفاء شرط العلمية حينما لا تفي بمعايير منهجية ثلاثة تتلخص فيما يلي:
1- الشك في صحة الاستقراء
2- صعوبة استنتاج ما لا يقع في تجربتنا، قياسا على ما يقع فيها.
3- افتراض إمكانية استنتاج ما لا يدخل في تجربتنا يكون ذا طابع مجرد لذلك يعطي قدرا من المعلومات أقل مما يبدو أنه معطيه لو استخدمت اللغة العادية.
أما بوانكاري فيذهب إلى أن معيار الموضوعية في العلم فيتحدد في العلاقة الموجودة بين الظواهر ،لهذا لم يعد ينظر إليها بشكل معزول مما أتاح للباحثين إمكانية تحقيق المسافة العلمية الضرورية بينهم وبين الموضوع المدروس.والخاصية التي تميز النظريات العلمية ، هي قابليتها للتطور والمراجعة والتغيير.فالنظرية قد تصبح يوما ما متجاوزة لتفسح المجال لأخرى لتحل محلها.وتتخذ لاحقا النظرية حلة جديدة.
غير أن موران يوجه تحذيرا من خطورة تطور العلم لأنه وان حرر الإنسان من عبودية الفكر الخرافي لكنه زج به في عبودية جديدة، ألا وهي حياة الخراب والدمار.ومن هنا كان لزاما أن تعي النظرية العلمية نفسها وأن تقتنع بحتمية الانفتاح على نظريات جديدة وتخضع لمنطق التحولات والقطائع حتى تتمكن من تصحيح أخطائها.
الدولة
مقدمة:
يتربع مفهوم الدولة عرش الفلسفة السياسية،لما يحمله من أهمية قصوى سواء اعتبرناه كيانا بشريا ذو خصائص تاريخية،جغرافية،لغوية،أو ثقافية مشتركة؛أو مجموعة من الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع.فان دل الاعتبار الثاني على شيء فإنما يدل على كون الدولة سيف على رقاب المواطنين وعلى هؤلاء الآخرين الامتثال والانصياع.
لكن من أين تستمد الدولة مشروعيتها؟أتستمدها من الحقن أم من القوة؟ ثم كيف يكون وجود دولة ما مشروعا ؟
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها.
يعتبر ماكس فيبر أن السياسة هي مجال تدبير الشأن العام وتسييره. وما الدولة إلا تعبيرا عن علاقات الهيمنة القائمة في المجتمع،وهذه الهيمنة تقوم على المشروعية التي تتحدد في ثلاث أسس تشكل أساس الأشكال المختلفة للدولة.وهي سلطة الأمس الأزلي المتجذرة من سلطة العادات والتقاليد،ثم السلطة القائمة على المزايا الشخصية الفائقة لشخص ما،وأخيرا السلطة التي تفرض نفسها بواسطة الشرعية،بفضل الاعتقاد في صلاحية نظام مشروع وكفاءة ايجابية قائمة على قواعد حكم عقلانية.
يرى هوبز أن الدولة تنشأ ضمن تعاقد إرادي وميثاق حر بين سائر البشر ،حتى ينتقلوا من حالة الطبيعة –حرب الكل ضد الكل-إلى حالة المدنية.وبذلك ستكون غاية الدولة هي تحقيق الأمن والسلم في المجتمع.
أما سبينوزا فيرى أن الغاية من تأسيس الدولة هي تحقيق الحرية للأفراد والاعتراف بهم كذوات مسؤولة وعاقلة وقادرة على التفكير وبالتالي تمكين كل مواطن من الحفاظ على حقه الطبيعي في الوجود باعتباره وجودا حرا.
لكن هيجل فيرى أن مهمة الدولة هي أبعد من ذلك وأعمق وأسمى. فالفرد في رأيه يخضع للدولة وينصاع لقوانينها لأنها تجسد فعليا الإرادة العقلانية العامة، والوعي الجماعي القائم على الأخلاق الكونية، لأنها تدفع بالمرء للتخلص من أنانيته بحيث ينخرط ضمن الحياة الأخلاقية. فالدولة في نظره، هي أصدق تعبير عن سمو الفرد ورقيه إلى الكونية.فهي بذلك تشكل روح العالم.
المحور الثاني:طبيعة السلطة السياسية.
إن تباين المواقف الفلسفية حول مشروعية الدولة تتمخض منه إشكالات عدة حول طبيعة السلطة السياسية.فهل يمكن حصر السلطة السياسية في أجهزة الدولة أم أن السلطة قدرة مشتتة في كل المجتمع؟ وهل هي متعالية عن المجال الذي تمارس فيه،أم أنها محايثة له؟
في هذا الخضم نجد دو توكفيل الذي يرى أن الصفات الجديدة التي أصبحت تتحلى بها الدولة،في ممارستها السياسية،هي تلبية متع الأفراد ورغباتهم وتحقيق حاجياتهم اليومية.لكن هذه الامتيازات يرى أنها كانت على حساب إقصائهم من الحياة السياسية ،الأمر الذي أدى إلى تقليص الحريات وتدني الوعي السياسي لديهم ،وبالتالي تحول الأفراد إلى قطيع تابع وفاقد للإرادة.
أما مونتسكيو فقد عالج في كتابه "روح القوانين" طبيعة السلط في الدولة،إذ يصادر على ضرورة الفصل بين السلط داخل الدولة،حيث ينبغي في نظره استقلال السلطة التشريعية عن التنفيذية عن القضائية والفصل بينهما.والهدف من هذا الفصل والتقسيم هو ضمان الحرية في كنف الدولة.
وفي المقابل التصور الذي يحصر السلطة في مجموعة من المؤسسات والأجهزة،سيبلور ميشيل فوكو تصورا أصيلا للسلطة.إذ يرى أنها ليست متعالية عن المجال الذي تمارس فيه،بل هي محايثة له.إنها الاسم الذي يطلق على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين تجعل مفعول السلطة يمتد كعلاقات قوة في منحى من مناحي الجسم الاجتماعي.
المحور الثالث:الدولة بين الحق والعنف
في هذا الصدد نجد هنري لوفيفر الذي يعتبر الوضع المفارق للدولة -وطبيعة الممارسة السياسية المتأرجحة بين الوضوح تارة وبين الغموض تارة أخرى- أصبح موضوعا للمعرفة والتفكير،خصوصا في قدرة هذه الأنظمة على قيادة الأفراد والجماعات إلى المجهول والى أوضاع غير محسوبة العواقب تصل إلى مستوى الهيمنة والدمار،وهذا ما يتبين من خلال الأنظمة الديكتاتورية وأنظمة الحزب الواحد التي صادرت الحريات ومارست كل أشكال العنف.
في حين يرتئي مكيافيللي أن الممارسة السياسية هي فن حطم البشر،إذ ستحول إلى تقنية ومهارة بل إلى خصال على الأمير أن يمتلكها إن هو أراد الحفاظ على قوة الدولة وضمان استمراريتها،ومن أجل التحكم في زمام السلطة وإخضاع الشعب بقوة السيف والإكراه.
لكن سبينوزا يقف موقفا معارضا،إذ يؤكد أن مهمة الدولة لا تتمثل في تخويف الناس وترهيبهم،ولا في استعمال الدهاء السياسي والحيل لاستمالة من ينبغي استمالتهم ومنحهم الامتيازات والحوافز،ولكن مهمتها تكمن في نشر الفضيلة وجعل الناس يمارسون أعمالهم في اقتناع وطواعية.الأمر الذي لا يتأتى إلا بتوفير شروط من قبيل الحق والمساواة والحرية.
خاتمة:
يتضح لنا جليا أن الفلسفة الحديثة نزعت عن الدولة الكثير من الأقنعة والتصورات الأخلاقية ونظرت إليها كآلة لممارسة الحكم.حيث بينت أن هناك أنواع متعددة من المشروعية منها المرتبطة بالحكم المعتمد على التراث والمرتبطة بشخص ملهم أو المشروعية المؤسسية المرتبطة بالتصور التعاقدي.
الحق
مقدمة:
يعتبر مفهوم الحق من المفاهيم الأساسية التي تداولها الفلاسفة من القديم، لارتباط إشكاليته بالهموم الإنسانية، ولمواكبتها للحياة السوسيو-أخلاقية.
المحور الأول: الحق الطبيعي والحق الوضعي.
شكل الحق عبر مختلف العصور مبدأ سعى إليه الإنسان فصانه واحتفظ به لمدى أهميته وقيمته الاتيقيتين. لكن على أي أساس يقوم هذا الحق؟فهل يقوم على أساس طبيعي محدد سلفا أم على أساس قانوني ووضعي ؟
توماس هوبز، يذهب الى القول أن الإنسان أناني بطبعه، ويتلخص الحق الطبيعي في "أن لكل الناس الحق على كل الأشياء، بل إن لبعضهم الحق على أجسام البعض الآخر". إنها إذن "حرب الكل ضد الكل" ؛ إنها الحرية المطلقة في أن يفعل الإنسان ما شاء وأنى شاء. لكن ما دام "لن يتمكن أحد مهما بلغ من القوة والحكمة أن يبلغ حدود الحياة التي تسمح بها الطبيعة"؛ فيترتب عن ذلك تأسيس قانون يقوم على الحق الطبيعي في الحياة والدفاع عن النفس. وهو قانون يتنازل بموجبه الأفراد عن حقهم الطبيعي في الصراع من أجل حق طبيعي أسمى هو "حب البقاء"؛ فيضعون السلطة في يد شخص واحد مستبد.
في حين يتبنى سبينوزا أطروحة الحق الطبيعي، إذ يؤكد أن هذا الحق يتلخص في أن "لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه"، وليس هناك فرق بين الإنسان والكائنات الأخرى. فلديه كل الحق في أن يتصرف وفق ما يشتهيه وما تمليه عليه طبيعته. فمن هو بطبعه ميال إلى "منطق الشهوة" يتصرف وفق هذا المنطق (الغاية تبرر الوسيلة)؛ ومن ينزع بطبعه نحو "منطق العقل"، فإنه يتصرف وفق هذا النزوع. لكن، لكي يعيش الناس في وفاق وأمان "كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد" ؛ وذلك من خلال الخضوع لمنطق العقل وحده، وبالتالي كبح جماح الشهوة. وهذا أمر لا يتناقض مع الحق الطبيعي باعتبار العقل جزءا منه.
إلا أن جان جاك روسو يتناقض مع أطروحة الحق الطبيعي القائم على القوة . فالإنسان خير بطبعه، والقوة قاعدة فيزيائية لا يمكن أن يقوم عليها الحق. وبما أن الإنسان كائن عاقل لابد أن يتنازل عن الأنانية التي فرضها عليه جشعه وحبه للمال، وتفرده بالسلطة، وبالتالي قيام المدنية على أسس خاطئة. فالمدنية لا تقوم إلا على صوت الواجب، والحق يجب أن يعوض الشهوة والاندفاعات الجسدية. إن حالة التمدن مكسب لأنها تمثل "الحرية الأخلاقية التي تمكن وحدها الإنسان من أن يكون سيد نفسه بالفعل". إن الشهوة استعباد والامتثال إلى القوانين التي شرعها الإنسان بنفسه حرية. ويقصد روسو ضرورة إقامة المجتمع على أساس "تعاقد اجتماعي" في إطار سلطة ديمقراطية تعكس إرادة الجميع.
المحور الثاني:العدالة كأساس للحق.
سواء قام الحق على أساس القانون الطبيعي أو على أساس الوضعي،فان السؤال الذي يطرح نفسه:هو كيف ينبغي أن يؤجر هذا الحق؟وما هي الشروط التي يجب توفرها لتحقيق العدالة؟
تتحدد العدالة حسب أرسطو، بالتقابل مع الظلم.فالسلوك العادل،هو السلوك المشروع الموافق للقوانين والذي يكفل لكل ذي حق حقه تبعا لتناسب رياضي في حين أن الفعل الجائر هو الفعل اللامشروع المنافي للمساواة والذي يقوم على عدم التناسب وعدم التوسط بين الإفراط والتفريط.
أما أفلاطون فيرى أن تحقيق العدالة داخل المدينة قمين بقيام كل فرد بالمهمة التي وجد من أجلها على أحسن وجه،وبذلك يتحقق التناغم والانسجام بين قوى مختلفة ومتعارضة،عندها يكون هذا الفرد قد ساهم في كمال المدينة وتحقيق الفضائل المتمثلة في الحكمة والاعتدال والشجاعة.
لكن ألان فله رأي آخر، إذ يعتبر أن المعيار الأساسي للحق هو الاعتراف به والمصادقة عليه،أما الأشكال الأخرى من الممارسات اليومية،فلا تدخل في إطار الحق،لأنه لا يشمل الوقائع والأحداث التي تنبع من واقع الناس وحياتهم اليومية.
المحور الثالث:العدالة بين المساواة والإنصاف.
إذا كانت العدالة فضيلة أخلاقية، تتحدد قيمتها في تطبيقاتها العملية، وإلا ظلت مجرد حلم بعيد المنال.لذا وجب توفر شرطي المساواة والإنصاف، حتى تنتقل من مستوى ما ينبغي أن يكون –أي فكرة- إلى مستوى ما هو كائن.فهل بإمكان العدالة إنصاف جميع الناس؟
حسب أفلاطون فان العدالة تتحدد باعتبارها فضيلة تقوم في انسجام القوى المتعارضة وتناسبها. فالعدالة في رأيه تتحقق على مستوى النفس حين تنسجم قواها الشهوانية والغضبية والعاقلة،كما تتحقق على صعيد المجتمع حين يؤدي كل فرد الوظيفة التي وهبته الطبيعة دون تدخل في عمل الآخرين.
في حين تقترن العدالة عند أرسطو بالعدالة السياسية التي تفترض القيام بالسلوك المنصف والخاضع للقوانين التي لها دور تنظيم الحياة العمومية وضمان تحقيق العدالة السياسية.فالعدالة تدرك بنقيضها،لأن التصرف اللاعادل يتحقق عندما لا يأخذ الفرد نصيبه من الخيرات ومن ثروات البلاد،لذلك كان ضروريا وجود قانون يلزم الحاكم لكي يحكم بالعدل والمساواة.فالعدالة إذن لابد أن تقترن بالمساواة التي تضمن الكرامة للجميع.
غير أن كلاستر يرى أن تحقيق شرطي الإنصاف والعدالة،أو افتراض وجود حاكم عادل غير كاف بل يجب إضافة إلى ذلك فرض العدالة بقوة القانون لتفادي العنف والفوضى والاستئثار بالحكم.ودليله على ذلك افتقار السلطة لقوة القانون عندما تكون معنوية أو رمزية،مما يتسبب في إمكانية أفولها.الأمر الذي يستدعي ضرورة قيام السلطة على أساس القانون وليس على أساس شخصية رمزية كما هو متداول في أعراف وتقاليد القبيلة.
خاتمة:
كاستنتاج عام، يتبين أن الحق مفهوم فلسفي كان أساس نقاش متواصل بين الفلاسفة والمفكرين منذ القديم، لما له من ارتباط بإنسانية الإنسان، وتنظيم حياته الاجتماعية، وتحقيق كينونته. وقد تأرجح الفلاسفة بين اعتباره حقا طبيعيا أو حقا وضعيا ؛ دون أن ننسى هناك أطروحات لا ترى تناقضا بين الطبيعي والوضعي، باعتبار الوضعي توجيها للطبيعي... كما أن الاختلاف الحاصل حول القانون يمكن حله على الشكل التالي: فكلما كان القانون خدوما للصالح العام؛ كلما كان حقا وجب على الناس الالتزام به. علما بأن الحق ليس مطلقا بل هو نسبي، ومن هذا المنطلق يجب العمل على تحيين القوانين حتى تكون مواكبة للعصر.
الواجب
تقديم
يعتبر مفهوم الواجب قطب رحى الفلسفة الأخلاقية ، إذ يشكل إحدى المقولات الأساسية التي انبنى عليها التفكير الفلسفي في الشق الأخلاقي إلى جانب قيم أخرى كالسعادة و الحرية... والحديث عن الواجب باعتباره أحد هذه القيم يدفعنا للتساؤل:ما هو الواجب ؟وما هو الأساس الذي يقوم عليه؟هل يقوم على الالتزام الداخلي المؤسس على الوازع الأخلاقي؟أم أنه يقوم على سلطة الإكراه والإلزام الخارجي بغض النظر عن مصدره وطبيعته؟وإذا كان الواجب يقوم على الالتزام الداخلي ألا يقتضي ذلك ضرورة وجود وعي أخلاقي من شأنه أن يشكل الأساس الذي يقوم عليه الواجب ـ إلى جانب أسس أخرى كالقوانين الوضعية؟وعندما نتحدث عن الواجب ،ألا يحق لنا أيضا أن نتساءل :هل الواجب هو واجب تجاه الذات أم تجاه الآخرين؟
المحور الأول: الواجب و الإكراه
الحديث عن مفهوم الواجب يجرنا للتساؤل عما إذا كان إلزاما أم التزاما ؟بمعنى آخر هل ما نقدمه من واجب هو صادر عن رضى وطيب خاطر؟أم لأننا أرغمنا عليه؟
يذهب كانط إلى اعتبار الواجب هو القيام بالفعل احتراما للقانون ـالقانون الذاتي الأخلاقي القائم على الخير الأسمى، والمؤسس على العقل والإرادة ـ وعلى هذا النحو يكون المرجع الأساسي الذي يجب أن ينطلق منه الجميع هو العقل لأنه كوني بالنسبة للجميع. والحكم الأخلاقي إذ يصدر عن الإرادة الخيرة الحرة ـ التي مصدرها العقل هي الأخرى ـ فهو أيضا يمكن توصيفه بالكوني.
اهتجس كانط بهاجس الكونية وهو يبني فلسفته النقدية بشكل عام. لذلك وضع قوانين تتسع رقعتها لتشمل الإنسان كمفهوم، أي الإنسان في صيغته المطلقة، مركزا على العقل والإرادة لطابعهما الكوني والمشترك. فالعقل العملي إلى جانب الإرادة هما المشرعين لمفهوم الواجب، الذي هو إكراه، من حيث هو فعل خاضع للعقل، وللحرية، لأن مصدره الإرادة.
في حين يرى هيجل أن الأطروحة الكانطية مجرد نزعة صورية تفتقر إلى التجلي والتجسد في الواقع. فالواجب مع هيجل ذو طابع مؤسساتي وغايته هي إقامة الدولة القوية التي يبتدئ بناء صرحها من الفرد الذي ينصهر في الكل، بلغة صاحب الفينومنولوجيا " يجب على الفرد الذي يؤدي واجبه أن يحقق مصلحته الشخصية أو إشباعه وأن يتحول الشأن العام إلى شأن خاص بفعل وضعيته داخل الدولة. فان دل هذا فإنما يدل على أن المصلحة الخاصة تنصهر ضمن المصلحة العامة بحيث يضمن الفرد حمايتها. "فالفرد ـ يقول هيجل ـ الخاضع للواجبات سيجد في تحقيقها حمايته لشخصه ولملكيته باعتباره مواطنا، وتقديرا لمنفعته وإشباعا لماهيته الجوهرية، واعتزازا بكونه عضوا في هذا الكل؛ وبذلك يغدو الواجب مرتبطا بالدولة لا بالذات في وجودها الخالص.
وعلى النقيض من ذلك يرى غويو أن الفعل الأخلاقي لا يجب أن يصدر عن إلزام و لا عن خوف من أي جزاء أو عقاب. إنما يكون هو فعلا تأسيسيا لمسار الحياة الذي لا ينتهي، و لغايات حددتها الطبيعة الإنسانية بوصفها فاعلية مطلقة نحو الحياة. لكن الواجب الأخلاقي من وجهة النظر الطبيعية هاته التي ليس فيها شيء غيبي، يرتد إلى القانون الطبيعي الشامل ، فمصدره هو الشعور الفياض "بأننا عشنا و أننا أدينا مهمتنا ... و سوف تستمر الحياة بعدنا، من دوننا، و لكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار". و المنحى نفسه يتخذه نيتشه حين يؤسس الأخلاق على مبدأ الحياة بوصفها اندفاع خلاق محض. إذ الفعل الأخلاقي عند نيتشه ما يخدم الحياة ويزيد من قوتها و ليس ما يضعف الحياة و يزيد من محدوديتها. هكذا هو الخير و الشر عند نيتشه.
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي
يعتبر مفهوم الوعي الأخلاقي مفهوما مركزيا في الفلسفات الأخلاقية .فما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا الوعي؟
يرى روسو أن الوعي الأخلاقي إحساس داخلي موطنه وجداننا فنحن نحسه قبل معرفته ،وهو الذي يساعدنا على التمييز بين الخير والشر ،والحسن والقبيح،وهي إحساسات طبيعية وفطرية يسعى الإنسان من خلالها إلى تفادي ما يلحق الأذى به وبالآخرين،ويميل إلى ما يعود عليه وعلى الآخرين بالنفع.الأمر الذي يقوي لديه الوعي الأخلاقي فيجعله متميز عن باقي الكائنات الحيوانية الأخرى.
أما هيجل فانع يعتبر الوعي الأخلاقي هو الربط بين الواجب والمبادئ الأخلاقية.وفي هذا الإطار يميز هيجل بين الواجب بمعناه القانوني والواجب بمعناه الأخلاقي ،فإذا كان النوع الأول من الواجب يعتبر نموذجيا،فان النوع الثاني يفتقر إلى الطابع النموذجي،وذلك لقيامه على الإرادة الذاتية.لكن ،سرعان ما سيعكس هيجل هذا الحكم ،عندما سيعتبر الواجب القانوني واجبا يفتقر إلى الاستعداد الفكري،على عكس الواجب الأخلاقي الذي يستدعي ذلك الاستعداد،ويقتضي أن يكون مطابقا للحق في ذاته.وعلى هذا النحو يصبح للواجب الأخلاقي قيمة باعتباره وعيا ذاتيا وليس إلزاما خارجيا.
وفي مقابل هذين التصورين ،يذهب نيتشه إلى رفض كل التزام أخلاقي ، سواء من الناحية المبدئية أو من ناحية ادعائنا القدرة على تعميمه على جميع الذوات.إن اعتبار الالتزام الأخلاقي أساسيا للفعل الأخلاقي ،هو في نظره هو جهل بالذات وسوء فهم لها، وخصوصا عندما تدعي تلك الذات إمكانية تعميمه على كل الذوات الأخرى. وكبديل لهذا الالتزام، يشدد نيتشه على الأنانية الذاتية، بما تعنيه من هناء وخنوع وتواضع، باعتبارها أساسا للسلوك الإنساني عوض ذلك الالتزام الأخلاقي الزائف.
المحور الثالث: الواجب و المجتمع
ماهي الصلة التي يمكن إقامتها بين الواجب والمجتمع ؟ وكيف تتحدد واجبات الفرد تجاه المجتمع والآخرين؟
يرى دوركهايم بأن المجتمع يشكل سلطة معنوية تتحكم في وجدان الأفراد، و يكون نظرتهم لمختلف أنماط السلوك داخله، و من ثمة فالمجتمع يمارس نوعا من القهر و الجبر على الأفراد إذ هو الذي يرسم لهم معالم الامتثال للواجب الأخلاقي و النظم الأخلاقية عموما، و لما كانت الحال كذلك لأن الأفراد يُسلب منهم الوعي بالفعل الأخلاقي، لأنه لم يكن نابعا من إرادة حرة و واعية و إنما عن ضمير و وعي جمعيين هما المتحكمان في سلوكيات الأفراد. و بالتالي فالمجتمع سلطة إلزامية "و التي يجب أن نخضع لها لأنها تحكمنا و تربطنا بغايات تتجاوزنا.
و من ثمة فالمجتمع يتعالى على الإرادات الفردية، و يفرض السلوكيات التي يجب أن يكون بما فيها السلوكيات الأخلاقية لأن المجتمع "قوة أخلاقية كبيرة. فيحقق الأفراد غاية المجتمع لا غاية ذواتهم و الإنصات لصوته الآمر لأن "تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة و ضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع و لا يعبر إلا عنه.
أما ماكس فيبر فينصرف في حديثه عن الواجب الأخلاقي و الأخلاق عموما إلى القول بأن الأخلاق في مجملها تنقسم إلى نمطين اثنين: نمط أول موسوم بأخلاق الاقتناع ذات المظهر المثالي و المتعالي التي يكون فيها الفرد غير متحمل لأية مسؤولية، و إنما هي مركونة إلى المؤثرات و العوامل الخارجية التي لا يتدخل فيها الفرد، و إنما تطرح فيه بتأثير الأبعاد الدينية، بما هي صوت متعال يصدر أوامره، حيث إن " أخلاقية الاقتناع لن ترجع المسؤولية إلى الفاعل، بل إلى العالم المحيط و إلى حماقة البشر و إلى مشيئة الله الذي خلق الناس على بهذه الصورة.
و نمط ثان من الأخلاق هو ما أطلق عليه أخلاق المسؤولية، التي تصدر من الذات الفردية و تتأسس على الوعي الفردي الحر، إذ "نحن مسئولون عن النتائج التي تمكن توقعها لأفعالنا"، و لا ترجع المسؤولية إلى بعد خارجي قسري، لا علاقة لهذه الأخلاق بالقدر أو بالحظ.
لكن جون راولز صاحب نظرية العدالة في الفكر السياسي المعاصر، فيذهب الى أن الواجب الأخلاقي باعتباره نمطا من التضامن الذي يبنيه و يؤسسه الجيل السابق للجيل اللاحق، حتى يستطيع الجيل الأول أن يوفر كل إمكانيات العيش الرغيد و المريح. فكل جيل يتحمل على كاهله مسؤولية تأمين المستقبل الذي لا يجعل الجيل اللاحق في حالة من الضياع و التشتت.
و كثيرة هي المناحي التي ينبثق منها هذا الواجب الأخلاقي بما هو تضامن بين الأجيال ، و هذا التضامن هو خدمة للمجتمع عموما و تقسيم الثروات بشكل عادل.
خاتمة
انطلاقا مما سبق التطرق إليه من مواقف نجد أن الواجب الأخلاقي مفهوم يتراوح بين عدة أنظار و مواقف متباينة لا تتعارض أكثر مما تكون صورة بانورامية حوله، فمنهم من جعل من الواجب إرادة حرة و مطلقة في مقابل رأي معاكس إذ يرى النقيض، حيث جعل من الواجب الأخلاقي جزءا لا يجتزئ عن سلطة من السلط إما نفسية أو دينية أو غير ذلك...
الحرية
مــقـدمــــة:
مما لامناص منه أن مفهوم الحرية من المفاهيم الفلسفية الأكثر جمالية ووجدانية، فلهذا السبب اتخذت دائما شعارا للحركات التحررية والثورية ومختلف المنظمات الحقوقية في العالم، باعتبارها قيمة إنسانية سامية تنطوي على مسوغات أخلاقية واجتماعية وأخرى وجدانية وجمالية. إلا أنها تعد من المفاهيم الفلسفية الأكثر جدلا واستشكالا.
فقد طُرحت الحرية بالقياس دوما إلى محددات خارجية؛حيث كانت مسألة الحرية تطرح في الفكر القديم قياسا إلى القدرة والمشيئة الإلهية واليوم تُطرح قياسا إلى العلم الحديث بشقيه ،سواء علوم الطبيعة أم الإنسان.
فماذا تعني الحرية:هل الحرية أن نفعل كل ما نرغب فيه؟أم أنها محدودة بحدود حرية الآخرين؟وبناء على ذلك أين يمكننا أن نموقع الذات الإنسانية؟ هل هي ذات تمتلك حرية الاختيار وبالتالي القدرة على تحديد المصير؟ أم أنها ذات لها امتدادات طبيعية خاضعة لحتميات متعددة؟ ثم هل الحرية انفلات من رقابة القانون وأحكامه؟ أم أنها رهينته؟
1. الحرية والحتمية:
إذا كانت الحرية تتحدد بقدرة الفرد على الفعل والاختيار،فهل ستكون هذه الحرية مطلقة أم نسبية؟وهل ثمة حتميات وضرورات تحد من تحقيق الإرادة الحرة لدى الإنسان؟
يرى سبينوزا، أن الحرية، أو بالأحرى الشعور بالحرية مجرد خطأ ناشئ مما في غير المطابقة من نقص وغموض؛ فالناس يعتقدون أنهم أحرار لأنهم يجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما يظن الطفل الخائف انه حر في أن يهرب، ويظن السكران انه يصدر عن حرية تامة، فإذا ما تاب إلى رشده عرف خطأه. مضيفا أنه لو كان الحجر يفكر، لاعتقد بدوره أنه إنما يسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وبذلك تكون الحرية الإنسانية خاضعة لمنطق الأسباب والمسببات الذي ليس سوى منطق الحتمية.
أما كانط فينطلق في معرض بحثه لمفهوم الحرية،من فكرة تبدو له من المسلمات والبديهيات، مفادها أن الحرية خاصية الموجودات العاقلة بالإجمال؛ لأن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحرية. غير أن أي محاولة من العقل لتفسير إمكان الحرية تبوء بالفشل، على اعتبار أنها معارضة لطبيعة العقل من حيث أن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس وأن الشعور الباطن لا يدرك سوى ظواهر معينة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبيعة الحرية نفسها من حيث أن تفسيرها يعني ردها إلى شروط وهي علية غير مشروطة. كما ينص كانط على التعامل مع الإنسان باعتباره غاية، لا باعتباره وسيلة، ذلك لأن ما يعتبر غاية في ذاته ، هو كل ما يستمد قيمته من ذاته، ويستمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. يقتضي هذا المبدأ بان يختار كل فرد بحرية الأهداف والغايات التي يريد تحقيقها بعيدا عن قانون التسلسل العلي الذي يتحكم في الظواهر الطبيعية.
في حين يرى كارل بوبر ضرورة إدخال مفهوم الحرية إلى دائرة النقاشات العلمية ،وخلصها من التصورات الحتمية.فالعالم الفيزيائي حسبه مفتوح على إمكانيات إنسانية عديدة ،وهي إمكانيات حرة تتميز بالإبداع والابتكار. فالأفعال والأحداث ليست من محض الصدفة، وإنما نابعة من الإرادة الحرة للفرد الذي يعيش وسط العوالم الثلاثة.
غير أن سارتر يعتبر أن الحرية لا تتحدد فقط في الاختيار،وإنما في انجاز في انجاز الفرد لمشروعه الوجودي ،مادام أنه ذاتا مستقاة تفعل وتتفاعل،أما الإحساسات والقرارات التي يتخذها ،فهي ليست أسبابا آلية ومستقلة عن ذواتنا،ولا يمكن اعتبارها أشياء وإنما نابعة من مسؤوليتنا وقدرتنا وإمكانيتنا على الفعل.
2. حرية الإرادة:
إذا كانت الحرية نابعة من قدرة الفرد على الاختيار والفعل فان الهدف الأساسي لها يتجلى أساسا في تحصيل المعرفة وبلوغ الحقيقة. يميز الفارابي بين الإرادة والاختيار:فالإرادة هي استعداد يتوفر على نزوع نحو الإحساس والتخيل،في الوقت ذاته يتميز الاختيار بالتريث والتعقل،ومجرد ما يحصل الإنسان المعقولات بتمييزه بين الخير والشر،فانه يدرك السعادة الفعلية وبالتالي يبلغ الكمال.
ولا يختلف اثنان في اعتبار سارتر فيلسوف الحرية بامتياز، وكيف لا وهو الذي نصب نفسه عدوا لذودا للجبريين. لقد بذل هذا الفيلسوف قصارى جهده للهبوط بالإنسان إلى المستوى البيولوجي المحض. فالحرية هي نسيج الوجود الإنساني،كما أنها الشرط الأول للعقل "إن الإنسان حر،قدر الإنسان أن يكون حرا ، محكوم على الإنسان لأنه لم يخلق نفسه وهو مع ذلك حر لأنه متى ألقي به في العالم، فإنه يكون مسؤولا عن كل ما يفعله". هكذا يتحكم الإنسان –حسب سارتر- في ذاته وهويته وحياته، في ضوء ما يختاره لنفسه بإرادته ووفقا لإمكاناته.
أما ديكارت فيعتبر الإرادة أكمل وأعظم ما يمتلك الإنسان لأنها تمنحه القدرة على فعل الشيء أو الامتناع عن فعله،فهي التي تخرجه من وضعية اللامبالاة وتدفعه إلى الانخراط في مجال الفعل والمعرفة والاختيار الحر.
أما نيتشه، فقد رفض الأحكام الأخلاقية النابعة من التعاليم المسيحية، معتبرا أنها سيئة وأنها أكدت، تأكيدا زائفا على الحب والشفقة والتعاطف، وأطاحت ،في المقابل، بالمثل والقيم اليونانية القديمة التي اعتبرها أكثر صدقا وأكثر تناسبا مع الإنسان الأرقىsuperman"". فهذه الأخلاق – بالمعنى الأول – مفسدة تماما للإنسان الحديث الذي يجب أن يكون "روحا حرة" ويثبت وجوده ويعتمد على نفسه ويستجيب لإرادته. فقد اعتبر بوجه عام أن الحقيقة القصوى للعالم هي الإرادة، ومثله الأعلى الأخلاقي والاجتماعي هو " الرجل الأوربي" الجيد، الموهوب بروح حرة، والذي يتحرى الحقيقة بلا ريب، ويكشف عن الخرافات والترهات.
3. الحرية والقانون:
إذا اعتبرنا أن الحرية مقترنة بالإرادة الحرة وبقدرة الفرد على التغلب على الاكراهات والحتميات ،فكيف يمكن الحد من الحرية المطلقة؟وما دور القانون في توفير الحرية وترشيد استعمالها؟
لما كان الإنسان قد ولد وله الحق الكامل في الحرية والتمتع بلا قيود بجميع حقوق ومزايا قانون الطبيعة ، في المساواة مع الآخرين ، فإن له بالطبيعة الحق، ليس في المحافظة على حريته فحسب، بل أيضا في أن يقاضي الآخرين، إن هم قاموا بخرق للقانون ومعاقبتهم بما يعتقد أن جريمتهم تستحقه من عقاب. من هذا المنطلق وُجد المجتمع السياسي، حيث تنازل كل فرد عن سلطته الطبيعية وسلمها إلى المجتمع في جميع الحالات التي لا ينكر عليه فيها حق الالتجاء إلى القانون الذي يضعه المجتمع لحمايته.
لا يعول توماس هوبز كثيرا على القانون، فهو يعتقد أن كينونة الحرية في الإنسان هي الدافع الأساسي لإعمال حريته وليس القانون، مضيفا أنه إذا لم يكن الإنسان حرا بحق وحقيقة، فليس هناك موضع للإدعاء بأن هذا الإنسان يمكنه أن يحظى بالحرية فقط عندما يكون تحت نظام قانوني معين... إذ تبقى الحرية عند هوبز نصا يمتلك معنى واسعا، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لإحراز ما يرغب فيه الإنسان، فالإرادة أو الرغبة لوحدها لا تكفي لإطلاق معنى الحرية. وهوبز كغيره من رواد الفكر السياسي الغربي، يؤمن بأن حرية الإنسان تنتهي عند حرية الآخرين، فقد رفض الحرية الزائدة غير المقيدة، إذ أكد بأن الحرية ليست الحرية الحقيقية لأنها خارجة عن السيطرة، بالأحرى سيكون الإنسان مستعبدا من خلال سيادة حالة من الخوف المطرد المستمر. وهكذا ستتعرض المصالح الشخصية الخاصة وحتى الحياة نفسها للرعب والذعر، من قبل الآخرين أثناء إعمالهم لحرياتهم. فالحرية المطلقة تقود إلى فقدان مطلق للحرية الحقيقية.
وفي نفس الاتجاه يذهب مونتسكيو حيث يرى أن الحرية تنطوي على العديد من المعاني والدلالات ،وتقترن بأشكال مختلفة من الممارسات السياسية .فالحرية في نظره ليست هي الإرادة المطلقة ، وإنما الحق في فعل يخوله القانون دون المساس بحرية الآخرين.
غير أن أردنت Arendtربطت الحرية بالحياة اليومية وبالمجال السياسي العمومي ذلك أن اعتبار الحرية حقا يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسي وقوانين ينظمان هذه الحرية، ويحددان مجال تعايش الحريات. أما الحديث عن حرية داخلية(ذاتية)، فهو حديث ملتبس وغير واضح. إن الحرية، حسب أرندت، مجالها الحقيقي والوحيد هو المجال السياسي، لما يوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس، إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، إن على مستوى التنقل أو التعبير أو غيرها، فتلك هي إذن الحرية الحقيقية والفعلية في اعتقادها.
خاتمة:
يتضح لنا جليا من خلال ما سبق أن مفهوم الحرية مفهوم ملتبس، فكلما اعتقدنا أننا أحطنا بها، انفلت منا ، فقد تعددت النظريات من فلسفة لأخرى بل من فيلسوف لآخر فهناك من ميزها عن الإرادة الفارابي، وهناك من رأى أنها تحوي زخما كبيرا من الدلالات والمعاني مونتيسكيو ، وهناك كذلك من ربطها بالحياة اليومية ولم يعزلها عن حياتنا السياسية كما ذهبت إليه أرندت.